٢٠ نيسان ، ٢٠٢٤ ٠٢:٢٧ ق.ظ

كلمة وزير العدل النقيب شكيب قرطباوي
رجوع
٣٠ نيسان ، ٢٠١٣

كلمة وزير العدل النقيب شكيب قرطباوي

في حفل توقيع كتاب ثقافة الدفاع عن الحقوق

للمحامي الدكتور بول مرقص

في 26 نيسان 2013

 

أيها الحضور الكريم،

كلما وقفت في هذا البيت تمالكني شعور بالفرح يغلفه شعور بالحنين، الحنين الى الجذور. واذا كان الانسان يرتاح في كل مرة يعود فيها الى بيته، فانا ارتاح في كل مرة اعود فيها الى جذوري التي ما خرجت منها يوماً، والتي تبقى الدائم الوحيد والحقيقي في حياة متعرجة ذقت من حلوها ومن مرها، فبقي البيت الوالدي، بيت المحامي، الملاذ الوحيد المريح. وهذا المساء يزداد فرحي كوني اتكلم في حضرة عدد من زملائي المحامين، وعلى رأسهم نقيبنا، عن كتاب وضعه زميل محام، زميل شاب واعد، بكل ما للكلمة من معنى.

زميلي وعزيزي بول،

منذ دخولك الى نقابة المحامين ظهر لي واضحاً انه سيكون لك مسار متميز الى حد بعيد . محام نشيط يمتهن العلم وثقافة القانون والحقوق، دفاعاً عنها وترسيخاً لها. يُطل من حين الى آخر من خلال الاعلام توضيحاً لنص قانوني او دفاعاً عن حق ما او مطالبة بتكريس حق آخر. ويزيد ثقافته القانونية والعلمية من خلال مؤلف يصدره او من خلال مقال او تعليق ينشره. ومن باب حرصي على هذا الشاب الواعد، ادعوه بمحبة وصدق الى انتقاء مواضيعه واطلالاته الاعلامية، فيركز على بعض المواضيع العزيزة على قلبه اكثر من غيرها، فيشبعها درساً وتخصصاً، ان صح التعبير، ويجعل منها حصانه في هذا السباق التخصصي الذي هو سمة القرن الحادي والعشرين.

ايها الحضور الكريم،

طلب الي ان اتكلم عن تفعيل حقوق الانسان في نظام العدالة في لبنان. فماذا يقول محام تبوأ وزارة العدل، حول حقوق الانسان فيظل نظام العدالة الذي نعمل من خلاله في لبنان؟ في محاولة لبلورة ما اريد قوله، اخذت اقلب كتاب بول مرقص عن "ثقافة الدفاع عن الحقوق"، فاذا به يتكلم في الدستور والحريات والانتخابات، في المجتمع المدني وحقوقه وواجباته ومؤسساته، من احزاب ونقابات وجمعيات وجامعات، وصولاً الى الحقوق المدنية والاجتماعية والزواج المدني وحقوق الانسان والمساءلة في الدفاع عنها. قلبت الصفحات وقرأت عناوين ومقاطع، فوجدت بينها جامعاً مشتركاً أساسياً، جامعاً يشكل المدماك القوي لهذا البنيان المتكامل، الا وهو الجامع الثقافي المتمثل بتحول موضوع الدفاع عن الحقوق من نضال يقوم به ناشطون في مختلف الميادين، الى ثقافة يؤمن بها ويعمل من خلالها شعب واحد يحلم بالحصول على حقوقه والحفاظ عليها، الا انه لا يقدم الجهد الكافي من اجل ذلك، فتظهر هنا فردية اللبناني بابشع صورها، وكأن لسان الكثيرين من بيننا يقول: "شو واقفة علي"؟. وفي ذلك تنصل واضح من الواجبات الملقاة على كل منا.

أيها الحضور الكريم،

لفتتني خمسة عناوين في ما كتبه الاستاذ بول مرقص في المؤلف الذي نحتفل اليوم بتوقيعه: العنوان الاول "عقلنة" السياسة في لبنان، فخفت على بول من دخوله عالماً مختلفاً، لا يعنيه دائماً صوت العقل، والعنوان الثاني "فلننتخب عوضاً عن ثقافة "النق"، فخفت على بول ايضا من دخول عالم الكثير من اللبنانيين الذين يمتهنون السلبية والفردية، في حين يدعوهم هو الى الايجابية من خلال قيامهم بواجبهم، والمشاركة الجدية في التغيير الديمقراطي المطلوب، والعنوان الثالث "اصول التشريع"، وخفت على بول وزملاء بول من المحامين انهم اذا دخلوا الى عالم "اصول التشريع" في لبنان فقد لا يعود بامكانهم الاستعانة في لوائحهم المقدمة الى المحاكم بما نسميه معشر المحامين نية المشترع ومحاولة تفسيرها، لانهم سيصطدمون احياناً باحجيات يصعب فكها وبتشريعات لحالات فردية احياناً، اي على القياس، والعنوان الرابع، الزواج المدني، وتذكرت انني لم استكن الى رفض مديرية الاحوال الشخصية تسجيله، فطلبت الى الهيئة الاستشارية العليا ابداء رأيها مشجعاً على تسجيله، فكان ان افتت بجواز اجرائه في لبنان، وكان تسجيله امس. فشكراً الى كل من ساهم في هذا الانجاز التاريخي. اما العنوان الخامس، فهو مكافحة الفساد واستكمال بناء سلطة القضاء في لبنان، فتيقنت ان الزميل بول قد وصل الى بيت القصيد، وخفت من ان يبح صوته ويبقى كمن يصرخ في البرية.

السيدات والسادة،

لم أكن غريباً عن عالم السياسة عندما عينت وزيراً للعدل. فانا محام منذ حوالي /45/ سنة والمحامون ينشطون في الحقل العام، وكنت نقيباً للمحامين فدخلت اكثر الى الشأن العام. الا انني اقول اليوم، وبكل صراحة وشفافية، انني اكتشفت انني كنت غريباً عن الادارة التي ظننت انني اعرف الكثير عنها، وكنت غريباً عن اكثرية الطبقة السياسية وتطلعات وهواجس الكثير من افرادها، كما اكتشفت انني كنت بعيداً الى مسافة غير قليلة عن بعض المشكلات الداخلية التي يعاني منها القضاء، وبعضها امراض متشعبة الظواهر يلزمها سنوات غير قليلة للخروج منها، هذا اذا استمر اعطاء العلاج الذي ادعي انني شجعت على البدء به بزخم وتشدد. وكي اكون منصفاً، لا بد من ان اُذكر الجميع بانني اكره التعميم واحرص دائماً على اظهار التمايز الذي يتحلى به الكثيرون من القضاة. الا انه لا بد من الاقرار ايضاً ان السلطة القضائية، وبالرغم مما يتحلى به العدد الاكبر من القضاة من استقلالية ونزاهة، فهي لا تشكل حتى اليوم جسماً مستقلاً يقاوم الامراض المتفشية ويعمل بخطة واضحة لارساء دولة القانون والمؤسسات، التي تبقى مواضيع انشائية في ظل غياب هذه السلطة القضائية المستقلة التي يفترض ان تكون هيبتها فوق الجميع. والهيبة لا تكتسب بالخوف والتخويف، بل تُكتسب من خلال الثقة التي توحيها للمواطنين الأحكام والتدابير القضائية.

أيها السيدات والسادة،

ثقافة الدفاع عن الحقوق تعني وصولنا قضاة ومحامين ومواطنين، فضلاً عن السياسيين، الى قناعة راسخة ومتجذرة بان سلطة القضاء هي فوق الجميع وان على الجميع، ان يهابوا سلطة القضاء، وان لا يقوم البعض، وهم قلة، بمراجعة السياسيين والاستماع اليهم. ثقافة الدفاع عن الحقوق يرسخها سياسي مقتنع ان ما يحميه اليوم وغداً هو تقيده بالقانون احتراماً، وقاض نزيه مستقل يحميه كما يحمي اخصامه، ومواطن مقتنع انه يمكن ان يصل الى حقوقه لان القانون الى جانبه لا لأن "الواسطة" في متناوله، فضلاً عن اقتناعه الداخلي بان السلطة القضائية النزيهة والمستقلة تحمي حقوقه وتوصله اليها، وصولاً الى قاض عالم ونزيه يتحلى بفضائل التواضع والشجاعة في قول الحق، يعرف انه اذا راجع اي مرجع سياسي أو شخص نافذ، ارتهن له وأصبح أسير لعبة أكبر منه، قاضٍ لا يخشى تشكيلات ولا تعيينات، قاضٍ لا ينسى أنه قاض إلى أي محكمة انتمى، واينما كان مكان هذه المحكمة.

أيها الحضور الكريم،

يد واحدة لا تصفق. والمطلوب من كل قاضٍ أن يحصّن نفسه بالقناعة والإستقلالية الداخلية، فلا يتعلق بمظاهر خارجية خادعة لا تعني في النهاية شيئًا، وأن يقفل أذنيه عن كل ما هو خارج ملفه. والمطلوب أيضًا من الجسم القضائي من خلال مؤسساته القانونية وبصورة خاصة مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة القيام بعمل جماعي ودائم لتحصين القضاة والقضاء في وجه المتدخّلين، وفي مقدّمهم أكثرية الطبقة السياسية، والمطلوب منا نحن الطبقة السياسية أن نتذكّر دائمًا أنّ الحماية الحقيقية تأتي من خلال القاضي النزيه المستقل، وانّ السياسة دولاب، يوم لك ويوم عليك، وانّ من يقبل تدخّلك اليوم يقبل تدخّل غيرك غدًا. والمطلوب من المواطنين أن يقتنعوا أنّ أكثرية القضاة تتقيّد بالقانون والضمير وأننا يمكن أن نربح قضية أو أن نخسرها لأنّ القانون يقضي بذلك، وأن نقلع عن قناعة في غير محلها أنّ كل شيء يتم بالواسطة. وإذا كانت الشكوى صحيحة أحيانًا، وهنا دور التفتيش القضائي ودور مجلس القضاء الأعلى، فإنّ التعميم ظلم غير جائز.

عزيزي بول،

في رجوعك إلى ثقافة الدفاع عن الحقوق، أعدتني إلى الينابيع، الينابيع العذبة، الينابيع التي تروي عطشًا. فكلّ ما هو خارج الحقوق تعسّف متعب ومكلف للذات وللمجتمع، وكل ما هو حق، مريح وثابت ودائم. وكتابك زميلي بول يبعث في الأمل أنّ الجيل الجديد أو بعضه على الأقل، لم يتأقلم مع ظواهر غير صحيحة وغير صحيّة تعتبرها اكثرية مجتمعنا، ويا للأسف، امراً طبيعياً وجزءاً من مسلماتنا.

فالى مزيد من العراك الثقافي الشجاع في سبيل ترسيخ ثقافة الحقوق والدفاع عنها.